تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 437 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 437

437 : تفسير الصفحة رقم 437 من القرآن الكريم

** وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظّلُمَاتُ وَلاَ النّورُ * وَلاَ الظّلّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ * إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمّةٍ إِلاّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمّ أَخَذْتُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
يقول تعالى: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير لا يستويان, بل بينهما فرق وبون كثير, وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا لظل ولا الحرور, كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات, كقوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحيييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن في مثله الظلمات ليس بخارج منه} وقال عز وجل: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثل} فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والاَخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون, والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج له منها, بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والاَخرة حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم, وظل من يحموم لا بارد ولا كريم.
وقوله تعالى: {إن الله يسمع من يشاء} أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والإنقياد لها. {وما أنت بمسمع من في القبور} أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها, كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم {إن أنت إلا نذير} أي إنما عليك البلاغ والإنذار, والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذير} أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين, {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر, وأزاح عنهم العلل, كما قال تعالى: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} وكما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة.
وقوله تبارك وتعالى: {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات} وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات {وبالزبر} وهي الكتب {وبالكتاب المنير} أي الواضح البين {ثم أخذت الذين كفرو} أي ومع هذا كله كذب أولئك رسلهم فيما جاؤوهم به, فأخذتهم أي بالعقاب والنكال {فكيف كان نكير} أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً, والله أعلم.

** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
يقول تعالى منبهاً على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد, وهو الماء الذي ينزله من السماء, يخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار, كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها, كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لاَيات لقوم يعقلون}.
وقوله تبارك وتعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانه} أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان, كما هو المشاهد أيضاً من بيض وحمر, وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة, مختلفة الألوان أيضاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجدد الطرائق, وكذا قال أبو مالك والحسن وقتاده والسدي, ومنها غرابيب سود. قال عكرمة: الغرابيب الجبال الطوال السود, وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراساني وقتادة: وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب, ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الاَية: هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: {وغرابيب سود} أي سود غرابيب, وفيما قاله نظر.
وقوله تعالى: {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك} أي كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب, وهو كل ما دب على القوائم, والأنعام, من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة أيضاً, فالناس منهم بربر وحبوش وطماطم في غاية السواد وصقالبة وروم في غاية البياض, والعرب بين ذلك والهنود دون ذلك, ولهذا قال تعالى في الاَية الأخرى: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لاَيات للعالمين} وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان, بل الحيوان الواحد يكون أبلق فيه من هذا اللون وهذا اللون, فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزارفي مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح, حدثنا زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيصبغ ربك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم صبغاً لا ينفض أحمر وأصفر وأبيض» وروي مرسلاً وموقوفاً, والله أعلم. ولهذا قال تعالى بعد هذا: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به, لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى, كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئاً, وأحل حلاله وحرم حرامه, وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله. وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب, ورغب فيما رغب الله فيه, وزهد فيما سخط الله فيه, ثم تلا الحسن {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث, ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية, وإنّما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح المصري: معناه أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية, وإنما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يتبع, فإنما هو الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين, فهذا, لا يدرك إلا بالرواية, ويكون تأويل قوله: نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله, عالم بأمر الله, وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله, وعالم بأمر الله, ليس بعالم بالله, فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض, والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض, والعالم بأمر الله ليس العالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل.

** إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به, ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً, سراً وعلانية {يرجون تجارة لن تبور} أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله, كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه: إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة, ولهذا قال تعالى: {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم {إنه غفور} أي لذنوبهم {شكور} للقليل من أعمالهم قال قتادة: كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الأية يقول: هذه آية القراء. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثناحيوة, حدثنا سالم بن غيلان قال: إنه سمع دراجاً أبا السمح يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله, وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أضعاف من الشر لم يعمله» غريب جداً.